الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (36- 41): {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)}لما ذكر حال المؤمنين ومقرهم، ذكر حال الكافرين، وهذا يدل على أن أولئك الثلاثة هم في الجنة، {والذين كفروا} هم مقابلوهم، {لا يقضي عليهم}: أي لا يجهز عليهم فيموتوا، لأنهم إذا ماتوا بطلت حواسهم فاستراحوا. وقرأ الجمهور: {فيموتوا}، بحذف النون منصوباً في جواب النفي، وهو على أحد معنيي النصب؛ فالمعنى انتفى القضاء عليهم، فانتفى مسببه، أي لا يقضى عليهم ولا يموتون، كقولك: ما تأتينا فتحدثنا، أي ما يكون حديث، انتفى الإتيان، فانتفى الحديث. ولا يصح أن يكون على المعنى الثاني من معنى النصب، لأن المعنى: ما تأتينا محدثاً، إنما تأتي ولا تحدث، وليس المعنى هنا: لا يقضى عليهم ميتين، إنما يقضى عليهم ولا يموتون. وقرأ عيسى، والحسن: فيموتون، بالنون، وجهها أن تكون معطوفة على لا يقضى. وقال ابن عطية: وهي قراءة ضعيفة. انتهى. وقال أبو عثمان المازين: هو عطف، أي فلا يموتون، لقوله: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} أي فلا يعتذرون ولا يخفف عنهم نوع عذابهم. والنوع في نفسه يدخله أن يحيوا ويسعدوا. قال ابن عطية: وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: ولا يخفف بإسكان الفاء شبه المنفصل بالمتصل، كقوله:وقرأ الجمهور: {نجزي كل}، مبنياً للفاعل، ونصب كل؛ وأبو عمرو، وأبو حاتم عن نافع: بالياء مبنياً للمفعول، كل بالرفع. {وهم يصطرخون}: بني من الصرخ يفتعل، وأبدلت من التاء طاء، وأصله يصرخون، والصراخ: شدة الصياح، قال الشاعر: واستعمل في الاستغاثة لجهة المستغيث صوته، قال الشاعر: {ربنا أخرجنا}: أي قائلين ربنا أخرجنا منها، أي من النار، وردنا إلى الدنيا. {نعمل صالحاً} قال ابن عباس: نقل: لا إله إلا الله، {غير الذين كنا نعمل}، أي من الشرك، ونمتثل أمر الرسل، فنؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية. وقال الزمخشري: هل اكتفى بصالحاً، كما اكتفى به في {ارجعنا نعمل صالحاً} وما فائدة زيادة {غير الذي كنا نعمل} على أنه يوهم أنهم يعملون صالحاً آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قالت: فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به، وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي، ولأنهم كانوا يحسنون صنعاً فقالوا: أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نحسبه صالحاً فنعمله. انتهى. روي أنهم يجابون بعد مقدار الدنيا: {أوَلم نعمركم}، وهو استفهام توبيخ وتوقيف وتقرير، وما مصدرية ظرفية، أي مدة يذكر. وقرأ الجمهور: {ما يتذكر فيه من تذكر}. وقرأ الأعمش: ما يذكر فيه، من اذكر، بالادغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظاً بها في الدرج. وهذه المدة، قال الحسن: البلوغ، يريد أنه أول حال التذكر، وقيل: سبع عشرة سنة.وقال قتادة: ثمان عشرة سنة. وقال عمر بن عبد العزيز: عشرون. وقال ابن عباس: أربعون؛ وقيل: خمسون. وقال علي: ستون، وروي ذلك عن ابن عباس. {وجاءكم} معطوف على {أوَلم نعمركم}، لأن معناه: قد عمرناكم، كقوله: {ألم نربّك فينا وليداً} وقوله: {ألم نشرح لك صدرك} ثم قال: {ولبثت فينا} وقال {ووضعنا} لأن المعنى قدر بيناك وشرحنا. والنذير جنس، وهم الأنبياء، كل نبي نذير أمته. وقرئ: النذر جمعاً، وقيل: النذير: الشيب، قاله ابن عباس، وعكرمة، وسفيان، ووكيع، والحسن بن الفضل، والفراء، والطبري. وقيل: موت الأهل والأقارب؛ وقيل: كمال السفل.{فذوقوا}: أي عذاب جهنم. وقرأ جناح بن حبيش: عالم منوناً، غيب نصباً؛ والجمهور: على الإضافة. ومجيء هذه الجملة عقيب ما قبلها هو أنه تعالى ذكر أن الكافرين يعذبون دائماً مدة كفرهم. كانت مدة يسيرة منقطعة، فأخبر أنه تعالى، {عالم غيب السموات والأرض}، فلا يخفى عليه ما تنطوي عليه الصدور من المضمرات. وكان يعلم من الكافر أنه تمكن الكفر في قلبه، بحيث لو دام إلى الأبد ما آمن بالله ولا عبده. وخلائف: جمع خليفة، وخلفاء: جمع خليف ويقال للمستخلف: خليفة وخليف، وفي هذا تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم، فلم يتعظوا بحال من تقدمهم من مكذبي الرسل وما حل بهم من الهلاك، ولا اعتبروا بمن كفر، ولم يتعظوا بمن تقدم. {فعليه كفره}: أي عقاب كفره، والظاهر أنه خطاب عام؛ وقيل: لأهل مكة. والمقت: أشد الاحتقار والبغض والغضب، والخسار: خسار العمر. كان العمر رأس مال، فإن انقضى في غير طاعة الله، فقد خسره واستعاض به بدل الربح بما يفعل من الطاعات سخط الله وغضبه، بحيث صاروا إلى النار.{قل أرأيتم شركاءكم}، قال الحوفي: ألف الاستفهام ذلك للتقرير، وفي التحرير: أرأريتم: المراد منه أخبروني، لأن الاستفهام يستدعي ذلك. يقول القائل: أرأيت ماذا فعل زيد؟ فيقول السامع: باع واشترى، ولولا تضمنه معنى أخبروني لكان الجواب نعم أو لا. وقال ابن عطية: أرأيتم ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني. وقال الزمخشري: أروني بدل من أرأيتم لأن معنى أرأيتم أخبروني، كأنه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعن ما استحقوا به الإلهية والشركة، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله، أم لهم مع الله شركة في خلق السموات؟ أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه؟ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب، أو يكون الضمير في {آتيناهم} للمشركين لقوله: {أم أنزلنا عليهم سلطاناً} {أم آتيناهم كتاباً من قبله}{بل إن يعد الظالمون بعضهم}: وهم الرؤساء، {بعضاً}: وهم الأتباع، {إلا غروراً} وهو قولهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} انتهى. أما قوله {أروني} بدل من {أرأيتم} فلا يصح، لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلابد من دخول الأداة على البدل، وأيضاً فإبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم، ثم البدل على نية تكرار العامل، ولا يتأتى ذلك هنا، لأنه لا عامل في أرأيتم فيتخيل دخوله على أروني.وقد تكلمنا في الأنعام على أرأيتم كلاماً شافياً. والذي أذهب إليه أن أرأيتم بمعنى أخبرني، وهي تطلب مفعولين: أحدهما منصوب، والآخر مشتمل على استفهام. تقول العرب: أرأيت زيداً ما صنع؟ فالأول هنا هو {شركاءكم}، والثاني {ماذا خلقوا}، وأروني جملة اعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد. ويحتمل أن يكون ذلك أيضاً من باب الإعمال، لأنه توارد على ماذا خلقوا، أرأيتم وأروني، لأن أروني قد تعلق على مفعولها في قولهم: أما ترى، أي ترى هاهنا، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين. وقيل: يحتمل أن يكون أرأيتم استفهاماً حقيقياً، وأروني أمر تعجيز للتبيين، أي أعملتم هذه التي تدعونها كما هي وعلى ما هي عليه من العجز، أو تتوهمون فيها قدرة؟ فإن كنتم تعلمونها عاجزة، فكيف تعبدونها؟ أو توهمتم لها قدرة، فأروني قدرتها في أي شيء هي، أهي في الأرض؟ كما قال بعضهم: إن الله إله في السماء، وهؤلاء آلهة في الأرض. قالوا: وفيها من الكواكب والأصنام صورها، أم في السموات؟ كما قال بعضهم: إن السماء خلقت باستعانة الملائكة، فالملائكة شركاء في خلقها، وهذه الأصنام صورها، أم قدرتها في الشفاعة لكم؟ كما قال بعضهم: إن الملائكة ما خلقوا شيئاً، ولكنهم مقربون عند الله، فنعبدهم لتشفع لنا، فهل معهم من الله كتاب فيه إذنه لهم بالشفاعة؟ انتهى. وأضاف الشركاء إليهم من حيث هم جعلوهم شركاء الله، أي ليس للأصنام شركة بوجه إلا بقولهم وجعلهم، قيل: ويحتمل شركاءكم في النار لقوله: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} والظاهر أن الضمير في {آتيناهم} عائد على الشركاء، لتناسب الضمائر، أي هل مع ما جعل شركاء لله كتاب من الله فيه إن له شفاعة عنده؟ فإنه لا يشفع عنده إلا بإذنه. وقيل: عائد على المشركين، ويكون التفاتاً خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة إعراضاً عنهم وتنزيلاً لهم منزلة الغائب الذي لا يحصل للخطاب، ومعناه: أن عبادة هؤلاء أما بالعقل، ولا عقل لمن يعبد ما لا يخلق من الأرض جزءاً من الأجزاء ولا له شرك في السماء؛ وأما بالنقل، ولم نؤت المشركين كتاباً فيه أمر بعبادة هؤلاء، فهذه عبادة لا عقلية ولا نقلية. انتهى. وقرأ ابن وثاب، والأعمش، وحمزة، وأبو عمرو، وابن كثير، وحفص، وأبان عن عاصم: {على بينة}، بالإفراد؛ وباقي السبعة: بالجمع.ولما بين تعالى فساد أمر الأصنام ووقف الحجة على بطلانها، عقبة بذكر عظمته وقدرته ليتبين الشيء بضده، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله فقال: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا}: والظاهر أن معناه أن تنتقلا عن أماكنهما وتسقط السموات عن علوها.وقيل: معناه أن تزولا عن الدوران. انتهى. ولا يصح أن الأرض لا تدور. ويظهر من قول ابن مسعود: أن السماء لا تدور، وإنما تجري فيها الكواكب. وقال: كفى بها زوالاً أن تدور، ولو دارت لكانت قد زالت. وأن تزولا في موضع المفعول له، وقدر لئلا تزولا، وكراهة أن تزولا. وقال الزجاج: يمسك: يمنع من أن تزولا، فيكون مفعولاً ثانياً على إسقاط حرف الجر، ويجوز أن يكون بدلاً، أي يمنع زوال السموات والأرض، بدل اشتمال. {ولئن زالتا}: إن تدخل غالباً على الممكن، فإن قدرنا دخولها على الممكن، فيكون ذلك باعتبار يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال، فإن ذلك ممكن، ثم واقع بالخبر الصادق، أي ولئن جاء وقت زوالهما. ويجوز أن يكون ذلك على سبيل الفرض، أي ولئن فرضنا زوالهما، فيكون مثل لو في المعنى. وقد قرأ ابن أبي عبلة: ولو زالتا، وإن نافية، وأمسكهما في معنى المضارع جواب للقسم المقدّر قبل لام التوطئة في لئن، وإنما هو في معنى المضارع لدخول إن الشرطية، كقوله: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} أي ما يتبعون، وكقوله: {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا} أي ليظلوا، فيقدّر هذا كله مضارعاً لأجل إن الشرطية، وجواب إن في هذه المواضع محذوف لدلالة جواب القسم عليه. قال الزمخشري: و{إن أمسكها} جواب القسم في {ولئن زالتا}، سدّ مسدّ الجوابين. انتهى، يعني أنه دل على الجواب المحذوف، وإن أخذ كلامه على ظاهره لم يصح، لأنه لو سدّ مسدّهما لكان له موضع من الإعراب باعتبار جواب الشرط، ولا موضع له من الإعراب باعتبار جواب القسم. والشيء الواحد لا يكون معمولاً غير معمول. ومن في {من أحد} لتأكيد الاستغراق، ومن في {من بعده} لابتداء الغاية، أي من بعد ترك إمساكه. وسأل ابن عباس رجلاً أقبل من الشام: من لقيت؟ قال كعباً، قال: وما سمعته يقول؟ قال: إن السموات على منكب ملك، قال: كذب كعب، أما ترك يهوديته بعد؟ ثم قرأ هذه الآية. وقال ابن مسعود لجندب البجلي، وكان رجل: أي كعب الأحبار في كلام آخره ما تمكنت اليهودية في قلب وكادت أن تفارقه. وقالت طائفة: اتصافه بالحلم والغفران في هذه الآية إنما هو إشارة إلى أن السماء كادت تزول، والأرض كذلك، لإشراك الكفرة، فيمسكها حكماً منه عن المشركين وتربصاً ليغفر لمن آمن منهم، كما قال في آخر آية أخرى: {تكاد السماء يتفطرن منه} الآية. وقال الزمخشري: {حليماً غفوراً}، غير معاجل بالعقوبة، حيث يمسكها، وكانتا جديرتين بأن تهدهد العظم كلمة الشرك، كما قال {تكاد السموات يتفطرن منه} الآية. .تفسير الآيات (42- 45): {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)}الضمير في {وأقسموا} لقريش. ولما بين إنكارهم للتوحيد، بين تكذيبهم للرسل. قيل: وكانوا يعلنون اليهود والنصارى حيث كذبوا رسلهم، وقالوا: لئن أتانا رسول ليكونن أهدى من إحدى الأمم. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذبوه. {لئن جاءهم}: حكاية لمعنى كلامهم لا للفظهم، إذ لو كان اللفظ، لكان التركيب لئن جاءنا نذير من إحدى الأمم، أي من واحدة مهتدية من الأمم، أو من الأمة التي يقال فيها إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها، كما قالوا: هو أحد الأحدين، وهو أحد الأحد، يريدون التفضيل في الدهاء والعقل بحيث لا نظير له، وقال الشاعر:{فلما جاءهم نذير}، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، وهو الظاهر. وقال مقاتل: هو انشقاق القمر. {ما زادهم}: أي ما زادهم هو أو مجيئه. {إلا نفوراً}: بعداً من الحق وهرباً منه. وإسناد الزيادة إليه مجاز، لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم نفوراً، كقوله: {فزادتهم رجساً إلى رجسهم} وصاروا أضل مما كانوا. وجواب لما: {ما زادهم}، وفيه دليل واضح على حرفية لما لا ظرفيتها، إذ لو كانت ظرفاً، لم يجز أن يتقدّم على عاملها المنفي بما، وقد ذكرنا ذلك في قوله: {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم} وفي قوله: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم} والظاهر أن {استكباراً} مفعول من أجله، أي سبب النفور وهو الاستكبار، {ومكر السيء} معطوف على {استكباراً}، فهو مفعول من أجله أيضاً، أي الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار؛ {والمكر السيء}، وهو الخداع الذي ترومونه برسول الله صلى الله عليه وسلم، والكيد له. وقال قتادة: المكر السيء هو الشرك. وقيل: {استكباراً} بدل من {نفوراً}، وقاله الأخفش. وقيل: حال، يعني مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ومكر السيء من إضافة الموصوف إلى صفته، ولذلك جاء على الأصل: {ولا يحيق المكر السيء}. وقيل: يجوز أن يكون {ومكر السيء} معطوفاً على {نفوراً}. وقرأ الجمهور: ومكر السيء، بكسر الهمزة؛ والأعمش، وحمزة: بإسكانها، فإما إجراء للوصل مجرى الوقف، وإما إسكاناً لتوالي الحركات وإجراء للمنفصل مجرى المتصل، كقوله: لنا ابلان. وزعم الزجاج أن هذه القراءة لحن. قال أبو جعفر: وإنما صار لحناً لأنه حذف الإعراب منه. وزعم محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر، لأن حركات الإعراب دخلت للفرق بين المعاني، وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش يقرأ بهذا، وقال: إنما كان يقف على من أدّى عنه، والدليل على هذا أنه تمام الكلام، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعربه، والحركة في الثاني أثقل منها في الأوّل لأنها ضمة بين كسرتين.وقال الزجاج أيضاً: قراءة حمزة ومكر السيء موقوفاً عند الحذاق بياءين لحن لا يجوز، وإنما يجوز في الشعر للاضطرار. وأكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد، والاحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والاضطرار، والوصل بنية الوقف، قال: فإذا ساغ ما ذكرناه في هذه القراءة من التأويل، لم يسغ أن يقال لحن. وقال ابن القشيري: ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أنه قرئ به فلابد من جوازه، ولا يجوز أن يقال لحن. وقال الزمخشري: لعله اختلس فظن سكوناً، أو وقف وقفة خفيفة، ثم ابتدأ {ولا يحيق}. وروي عن ابن كثير: ومكر السيء، بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة، وهو مقلوب السيء المخفف من السيء، كما قال الشاعر: وقرأ ابن مسعود: ومكراً سيئاً، عطف نكرة على نكرة؛ {ولا يحيق}: أي يحيط ويحل، ولا يستعمل إلا في المكروه. وقرئ: يحيق بالضم، أي بضم الياء؛ المكر السيء: بالنصب، ولا يحيق الله إلا بأهله، أما في الدنيا فعاقبة ذلك على أهله. وقال أبو عبد الله الرازي: فإن قلت: كثيراً نرى الماكر يفيده مكره ويغلب خصمه بالمكر، والآية تدل على عدم ذلك. فالجواب من وجوه: أحدها: أن المكر في الآية هو المكر بالرسول من العزم على القتل والإخراج، ولا يحيق إلا بهم حيث قتلوا ببدر. وثانيها: أنه عامّ، وهو الأصح، فإنه عليه السلام نهى عن المكر وقال: «لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً»، فإنه تعالى يقول: {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله}، فعلى هذا يكون ذلك الممكور به أهلاً فلا يزد نقصاً وثالثها: أن الأمور بعواقبها، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر، ففي الحقيقة هو الفائز، والماكر هو الهالك. انتهى.وقال كعب لابن عباس في التوراة «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها»، فقال له ابن عباس: إنا وجدنا هذا في كتاب الله، {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله}. انتهى.وفي أمثال العرب «من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً». و{سنة الأولين}: إنزال العذاب على الذين كفروا برسلهم من الأمم، وجعل استقبالهم لذلك انتظاراً له منهم. وسنة الأولين أضاف فيه المصدر. وفي {لسنة الله} إضافة إلى الفاعل، فأضيفت أولاً إليهم لأنها سنة بهم، وثانياً إليه لأنه هو الذي سنها. وبين تعالى الانتقام من مكذبي الرسل عادة لا يبدلها بغيرها ولا يحولها إلى غير أهلها، وإن كان ذلك كائن لا محالة. واستشهد عليهم مما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم، في رحلتهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الماضين، وعلامات هلاكهم وديارهم، كديار ثمود ونحوها، وتقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة الروم.وهناك {كانوا أشد منهم قوّة} استئناف إخبار عن ما كانوا عليه، وهنا: {وكانوا}: أي وقد كانوا، فالجملة حال، فهما مقصدان. {وما كانوا الله ليعجزه}: أي ليفوته ويسبقه، {من شيء}: أي شيء، و{من} لاستغراق الأشياء {إنه كان عليماً قديراً}: فبعلمه يعلم جميع الأشياء، فلا يغيب عن علمه شيء، وبقدرته لا يتعذر عليه شيء.ثم ذكر تعالى حلمه تعالى على عباده في تعجيل العقوبة فقال: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا}: أي من الشرك وتكذيب الرسل، وهو المعنى في الآية التي في النحل، وهو قوله: {بظلمهم}، وتقدّم الكلام على نظير هذه الآية في النحل، وهناك {عليها}، وهنا على {ظهرها}، والضمير عائد على الأرض، إلا أن هناك يدل عليه سياق الكلام، وهنا يمكن أن يعود على ملفوظ به، وهو قوله: {في السموات ولا في الأرض}. ولما كانت حاملة لمن عليها، استعير لها الظهر، كالدابة الحاملة للأثقال، ولأنه أيضاً هو الظاهر بخلاف باطنها. فإنه {بعباده بصيراً}: توعد للمكذبين، أي فيجازيهم بأعمالهم.
|